فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (7- 9):

قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر المنزل والمنزل، وأخبر عن طعنهم في المنزل الذي هو المقصود بالذات من الرسالة، وأقام تعالى ذلك الدليل على كذبهم، أتبعه الإخبار عن طعنهم في الرسول الآتي به، فقال معجبًا عقولهم التي يعدونها أصفى العقول أفكارًا، وأعلاها آثارًا، فيما أبدوه من ذلك مما ظنوا أنه دليل على عدم الرسالة، ولا شيء منه يصلح أن يكون شبهة لذي مسكة من أمره، فضلًا عن أن يكون دليلًا: {وقالوا} أي مستفهمين تهكمًا بوصفه، قادحين فيه بفعله، قول من هو على ثقة من أن وصف الرسالة ينافيه: {مال هذا} والإشارة على هذا الوجه تفهم الاستهانة والتصغير؛ ثم أظهروا السخرية بقولهم: {الرسول} أي الذي يزعم أنه انفرد عن بقية البشر في هذا الزمان بهذا الوصف العالي {يأكل الطعام} أي مثل ما نأكل {ويمشي في الأسواق} أي التي هي مطالب الدنيا، كما نمشي.
ولما كانت ترجمة ما مضى: ما له مثلنا وهو يدعي الاختصاص عنا بالرسالة؟ أتبعوه التعنيف على عدم كونه على واحد من وجوه مغايرة على سبيل التنزل جوابًا لمن كأنه قال: فماذا يفعل؟ بقولهم: {لولا} أي هلا، وهي تأتي للتوبيخ، وهو مرادهم {أنزل} أي من السماء، من أيّ منزل كان، منتهيًا {إليه} أي على الهيئة التي هو عليها في السماء {ملك} أي من الملائكة الله على هيئاتهم المباينة لهيئات الآدميين {فيكون} بالنصب جوابًا للتحضيض ذلك الملك وإن كان هو إنسانًا {معه نذيرًا} فيكون ممتازًا بحال ليس لواحد منا، ليكون أهيب في النذارة، لما له من الهيبة والقوة، وكأنهم عبروا بالماضي إعلامًا بأن مرادهم كونه في الظهور لهم على غير الهيئة التي يخبركم بها من تجدد نزول الملك عليه في كل حين مستسرًا بحيث لا ينظره غيره، أو لأن الملك يمكن أن يكون على حالة المصاحبة له للنذارة، وإنما لا يتحول عنها بصعود إلى السماء ولا غيره، بخلاف الكنز فإنه للنفقة، فإن لم يتعهد كل وقت نفد، وهذا سر التعبير ب إلى دون على التي هي للتغشي بالوحي، ولذلك عبروا بالمضارع في قولهم، متنزلين عن علو تلك الدرجة: {أو يلقى} أي من أي ملق كان.
ولما كان الإلقاء دالًا على العلو، عدلوا عن أداة الاستعلاء التي تقدم التعبير بها في هود عليه السلام من الإنزال إلى حرف النهاية فقالوا: {إليه} أي إن لم تكن له تلك الحالة {كنز} أي يوجد له هذا الأمر ويتجدد له إلقاؤه غير مكترث ولا معبوء به، برفعه عن مماثلتنا العامة من كل وجه، وأيضًا التعبير في هذا والذي بعده بالمضارع أدل على تكالبهم على الدنيا وأنها أكبر همهم.
ثم تنزلوا أيضًا في قولهم: {أو تكون له} أي إن لم تكن له شيء مما مضى {جنة} أي بستان أو حديقة كما لبعض أكابرنا {يأكل منها} فتفرغه عما يتعاطاه في بعض الأحايين من طلب المعاش، ويكون غناه أعز له وأجلب للخواطر إليه، وأحث لعكوف الأتباع عليه، وأنجع فيما يريده- هذا على قراءة الجماعة بالياء التحتية، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالنون يكون المعنى: أنا إذا أمكنا منها، كان ذلك أجلب لنا إلى اتباعه، وما قالوه كله فاسد إذ لم يدّع هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أتباعه أنه هو ولا أحد من الأنبياء قبله يباين البشر، ولا أن وصفًا من أوصاف البشر الذاتية ينافي النبوة والرساله، وأما الاستكثار من الدنيا فهو عائق في الأغلب عن السفر إلى دار الكرامة، وموطن السلامة، وحامل على التجبر، ولا يفرح به إلا أدنياء الهمم، وخفة ذات اليد لا تقدح إلا في ناقص يسأل الناس تصريحًا أو تلويحًا إرادة لتكميل نقصه بالحطام الفاني، وقد شرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما له من صفات الكمال، والأخلاق العوال.
ولما كانوا بهذا واضعين الكلام في غير مواضعه، بعيدين عن وجه الصواب، قال معجبًا من أمرهم: {وقال الظالمون} فأظهر الوصف الموجب لهم ذلك: {إن} أي ما {تتبعون} إن اتبعتم {إلا رجلًا مسحورًا} أي يتكلم بما لا يجديه، فحاله لذلك حال من غلب على عقله بالسحر، أو ساحرًا صار السحر له طبعًا، فهو يفرق بما جاء به بين المرء وزوجه وولده ونحو ذلك، وعبروا بصيغة المفعول إشارة إلى هذا، وهو أنه لكثرة ما يقع منه من ذلك- صار كأنه ينشأ عنه على غير اختياره.
ولما أتم سبحانه ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم، التفت سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسليًا له فقال: {انظر} ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله: {كيف ضربوا} وقدم ما به العناية فقال: {لك الأمثال} فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلىلأرباح والفوائد، بلطيف الحيلة وغريز العقل، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل، وتارة ساحرًا تأتي بما يعجز عنه قواهم، وتحير فيه أفكارهم {فضلوا} أي عن جميع طرق العدل، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولًا يستقرون عليه وأبعدوا جدًا {فلا يستطيعون} في الحال ولا في المآل، بسبب هذا الضلال {سبيلًا} أي سلوك سبيل من السبل الموصلة غلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة، وفيافي مهلكة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الشبهة الثالثة: وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها: قولهم: {مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} وثانيتها: قولهم: {وَيَمْشِى في الأسواق} يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها: قولهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها: قولهم: {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها: قولهم: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ حمزة والكسائي {نَّأْكُلَ مِنْهَا} بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها: قولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: قوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} وفيه أبحاث:
الأول: أن هذا كيف يصلح أن يكون جوابًا عن تلك الشبهة؟ وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحًا في النبوة، فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلًا ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق، وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل، وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني، فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعًا، فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق، وما كان محالًا لم يكن عليه قدرة، فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا.
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا: هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا.
وَفِي الْآثَارِ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ» إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا.
وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ}.
وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ. اهـ.